هي خنساء القادسية، وهنّ خنساوات غزة.

 

 

 

" هي خنساء القادسية ، وهنَّ خنساوات غزة " 

بقلم: فاطمة المصري

قَبْلَ أَنْ تَبْدَأَ مَعْرَكَةُ القَادِسِيَّةُ دَعَتِ الخَنْسَاءُ بِنْتُ عَمْرٍو أَوْلَادَهَا الْأَرْبَعَةَ، وقَالَتْ لَهُمْ :" يَا بَنِيَّ ، إِنَّكُمْ أَسْلَمْتُمْ طَائِعِينَ ، وهَاجَرْتُمْ مُخْتَارِينَ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَبَنُو رَجُلٍ وَاحِدٍ كَمَا أَنَّكُمْ بَنُو امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، مَا خُنْتُ أَبَاكُمْ ، ولَا فَضَحْتُ خَالَكُمْ ، ولا هَجَّنْتُ حَسَبَكُمْ ، ولا غَيَّرْتُ نَسَبَكُمْ ؛ وقَدْ تَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الثَّوَابِ الجَزِيلِ ، واعْلَمُوا أَنَّ الدَّارَ الباقِيةَ خَيْرٌ مِنَ الدَّارِ الفَانِيةِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ آل عمران : ٢٠٠].

فإن رأيتم الحربُ قدْ شمّرت عن ساقها، و جَلّلَت نارا على أوراقها، فتيمَّموا وطيسَها، وجالِدوا رسيسَها، تَظْفروا بالغنمِ و الكرامةِ في دارِ الخلدِ و المقامة."

سَمِعَ الأَوْلَادُ نَصِيحَةَ أُمِّهِم ، ودَخَلُوا المَعْرَكَةَ وَكُلُّهُم يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وقاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا بِشَجَاعَةٍ وحَمَاسٍ حَتَّى اسْتُشْهِدُوا جَمِيعًا . ولَمَّا عَلِمَتِ الخَنْسَاءُ بِمَقْتَل أَوْلَادِهَا قَالَتْ : الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَّفَنِي بِقَتْلِهِمْ ، وأَرْجُو مِنْ رَبِّي أَنْ يَجْمَعَنِي بِهِمْ فِي مُسْتَقَرٌّ رَحْمَتِهِ .

وبِصَبْرِهَا هَذَا كَانَتِ الخَنْسَاءُ مِثَالًا رَائِعًا لِكُلِّ مُسْلِمٍ ومُسْلِمَةٍ .

 [أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير: ٧/ ٨٩]

قبل 1430 عاما سمع التاريخ  بخنساء القادسية، التي قدمت أبناءها الأربعة بين يدي الله فشكلت قدوة باقية على مرّ الزمان في البطولة والثبات والصبر، لم يعد بإمكان العقل البشري أن يتخيل أن  شراسة السلوك البشري، والعداء للإنسانية قد تجعلنا نشهد معاناة تماثل بل و تفوق معاناة الخنساء! هؤلاء أمّهات غزة وفلسطين قد امتثلن بذلك النموذج بعد كل تلك القرون!  وضاعة الانحدار البشري الشيطاني باقية لا تزول، وذلك الذئب الشرّير الذي تغذيه النفوس الخبيثة أصبح أكثر قوة و أقدر على الافتراس، وما زال  يجلب ذات الويلات على الإنسانية! أما أن تقوى الخنساوات على التصدي لهذا العبء الإنساني في هذا الزمان  فهذا أمر يدعو للعجب! فما الذي تحمله هذه القلوب لكي تقوى على حمل آلاما تفطر أشد الأجساد، وأكثرها قوّة وصلابة؟

ما الذي يجعل أمّا تحمل ابنها على أمرٍ، وهي تعلمُ أنّ ألما أكبرُ مما يحتمله صبرها سيصيبها، وأنّ خاطرها سيكسر ولن تداويه كل ّالجبائر، وأن حسرة ستكوي صدرها على رحيل ضنى بلا عودة؟   

يجري في عروقهن دم لا يجري في عروق غيرهن؛ دمُ حبّ الأوطان، ورفض الذلّ والهوان، وقوّة الإيمان، ونبذ حياة الخذلان، ويقين بأن ما عند الله خيرٌ للأبرار.

رسمن مثالا يحتذى في التربية الخنساويّة، تربية ترسخ مبادئ الصمود، والعزة، والأنفة، يزرعن الإباء وحب الفداء، ويسقين الأرض بدماء فلذات أكبادهن، فيحصدن شرفا و كرامة، وبشارة ببيوت الحمد يستقبلهن الأبناء على أبوابها، يدخلنها بسلام؛ أنْ طبتم أهل الدار، بفضل الله افرحوا؛ شرّدوكم هناك وآواكم في أعلى الجنان، كسروكم هناك وجبركم بجواره .

 

في ذكرى النكبة واجب علينا تمجيد الدماء التي تنزف، والأرواح التي تزهق، والأكفان التي تحمل، والأجساد التي تبلى، والدموع التي تذرف، و الكفاح الذي يبذل. أمّا خنساء القرن الحادي والعشرين هي أم الشهيد التي تطوي حزنها العميق، لتحيك منه انتصارا، ترسم به أملا بالنصر، و تجسد الصبر الجميل و الرضى و المجد بأسمى صوره.